(رحمك الله) دعوة خرجت من الجوف، بتنهيدة عريضة، وزفرة خرجت مع دمعات أخفيها، ولحظة وداع اختصرت أياما وأعواما، وأفراحا وأتراحا، وشريط حياة يمر أمامي سريعا، وعمرا احسسته قد مضى في لحظات.

تأملته وهم ينزلونه في قبره، والكل منشغل في إتمام المهمة، فهذا يقول: ضعه هنا، وآخر يقول: فك الأربطة، وغيرهم يعطي ملحوظات من هنا وهناك.

وفجأة رأيته أمامي! نعم أمامي! بجانب من يجهزونه لمثواه الأخير في هذه الدنيا، ومقارب لمن يباشرون دفنه، رأيته بابتسامته، وبخفة دمه، ينظر إليَّ مبتسما، كما عهدته، راضيا بقضاء الله، صابرا على ما أصابه من أمراض، محتسبا أحسبه، لم يتذمر، ولم يتسخط، لم يمنعه بتر قدميه من سنين، من صلة رحمه، فكثيرا ما قال لنا (اتصلت على فلان ويسلم عليكم).

وإذ هو طيف! أخفاه عن عيني غبار تراب القبر، وأيقظني منه أصوات من حولي، وتجهيزات أخيرة للحد، وإذ بي أتجهز لحثو التراب عليه.

وإذ بصارخ - كرهت صوته - يصرخ في داخلي: إنه أخوك، فقد اقترب ميعادك!

صرخت فيه محاولا إسكاته: لا، لا، إنه أكبر مني، وكان مريضا، فرد عليَ بصوت أكثر رزانة: أما الكبر فكم من هم أصغر منك قد طوتهم يد الردى، وأما المرض، فما هو إلا سبب دونه أسباب، وقد تصاب بالمرض ولا يمهلك.

حاولت أن أسكت هذا الصوت، لكنه استأنف قائلا: تعلم أنك ستمر من هنا، أين أجدادك؟ أين من كانوا هنا قبل مئتي عام؟ الصحابة رضوان الله عنهم مر عليهم أكثر من ألف وثلاثمئة عام، وهم في قبورهم، والحواريون أصحاب عيسى عليه السلام مر عليهم ألفا عام تقريبا، فكم مر على الناس من أيام إبراهيم ونوح وآدم عليهم السلام.

من أين أتاني هذا الصوت؟ ولماذا أكره التفكير في كلامه؟ صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: (يكبر ابن آدم ويكبر معه اثنان: حب المال، وطول العمر).

فمتى أريد أن أموت؟ بعد سنة؟ بعد عشر سنين؟

من رحمة الله بنا أن أخفى عنا ذلك، فلو علم الإنسان بموعد موته، لما عمر الأرض، ولما عمل لدنياه، وذلك من ابتلائه لنا أيضا لنكون مستعدين على الدوام للموعد الذي لن يخطئنا.

قبل النقطة: انكسر ظهري بفقدك يا أبا ماجد، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.