بين الفكرة والثورة.. سيرة ويليام باكلي في التاريخ الأمريكي - أحداث اليوم

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
بين الفكرة والثورة.. سيرة ويليام باكلي في التاريخ الأمريكي - أحداث اليوم, اليوم السبت 12 أبريل 2025 10:42 مساءً

في لحظات التحوّل التاريخي، لا تقتصر صناعة السياسة على الأحداث، بل يبرز أفراد استثنائيون يعيدون تشكيل الخطاب العام ويؤسسون لحركات تغيّر المشهد الثقافي والسياسي. في القرن العشرين الأمريكي، ظهرت شخصيات لم تكتفِ بمواكبة التحولات، بل صنعت واقعاً جديداً، وأعادت تعريف مفاهيم التأثير والهوية والنفوذ. من بين هذه الشخصيات، يبرز اسم ويليام ف. باكلي الابن، الذي يُعدّ من أكثر المفكرين تأثيراً في تشكيل التيار المحافظ الأمريكي الحديث.
في كتابه الجديد «باكلي: الحياة والثورة التي غيّرت أمريكا»، يقدم الكاتب والصحفي المعروف سام تاننهاوس عملاً توثيقياً شاملاً وعميقاً يتناول حياة أحد أبرز الوجوه الفكرية والسياسية في القرن العشرين: ويليام ف. باكلي الابن. يقع الكتاب الصادر حديثاً عن دار «راندوم هاوس» في 1040 صفحة من القطع الكبير. هذا الكتاب سيرة ذاتية، لكنه في الوقت ذاته عمل تأريخي واسع النطاق يوثّق ولادة الحركة المحافظة الحديثة في الولايات المتحدة، وانعكاساتها الفكرية والسياسية والثقافية التي ما زالت تتردد حتى يومنا هذا.
حين نشر باكلي كتابه الأول «الله والإنسان في جامعة ييل» عام 1951 وهو في الخامسة والعشرين من عمره، فتح النار على مؤسسته التعليمية، معلناً بذلك بداية ثورة فكرية محافظة أسهمت في تغيير ملامح السياسة الأمريكية لعقود ومنذ ذلك الحين، استمر باكلي في لعب دور المحرّك والمحاور والناقد، مؤسساً مجلة «ناشينال ريفيو»، التي أصبحت المنبر الأبرز للحركة المحافظة ومرسخةً لخطابها ومفاهيمها في زمن كانت فيه التيارات الليبرالية تهيمن على المشهد.
اختار باكلي بنفسه الكاتب سام تاننهاوس عام 2008، أي قبل عشر سنوات من وفاته، ليكتب سيرته، ويتعمق في أرشيفه الشخصي ويجري مقابلات حصرية معه وثّقت أفكاره وعلاقاته ومواقفه في مراحل مختلفة من حياته. بناء على ذلك، يقدم تاننهاوس قراءة متعددة الأبعاد لشخصية باكلي: الكاتب والمفكر والمحاور التلفزيوني الحائز على جائزة إيمي والسياسي الذي خاض انتخابات عمدة نيويورك والداعم الشرس للسيناتور جوزيف مكارثي، والمقرّب من باري غولدووتر والمرشد السياسي المبكر لرونالد ريغان.
يغوص الكتاب في أعماق حياته الخاصة، كاشفاً عن ارتباطاته بجهاز الاستخبارات المركزية الأمريكية، ومشاركته في مهام سرية في أمريكا اللاتينية وعلاقته المثيرة للجدل مع هوارد هانت، أحد المتورطين في فضيحة ووترغيت كما يتناول الكتاب صراع باكلي في سنواته الأخيرة للحفاظ على وحدة الحركة التي أسهم في تأسيسها وسط انقسامات متفاقمة حول قضايا مثل وباء الإيدز والحروب الثقافية وغزو العراق، في وقت كانت فيه إمبراطوريته الإعلامية تنهار تدريجياً.
يمضي الكتاب في تحليل التناقضات التي شكّلت شخصية باكلي: الكاثوليكي المحافظ الذي آمن بحرية السوق، الأرستقراطي المتأنق الذي وظّف لهجته الرفيعة وسحره الشخصي لجذب جمهور عريض من المحافظين والمثقف الذي جمع بين الجدال السياسي والكتابة الأدبية، بما في ذلك روايات التجسس التي لاقت رواجاً كبيراً.
يعدّ هذا العمل مرجعاً أساسياً لأي قارئ يسعى لفهم التحول الجذري في السياسة الأمريكية من منتصف القرن العشرين وحتى بدايات القرن الحادي والعشرين؛ إذ يوضح كيف نقل باكلي الأفكار المحافظة من هامش الحياة السياسية إلى مركز القرار، ويمهّد الطريق لفهم بروز شخصيات مثل ريغان وجورج بوش، بل ويفتح الباب لتأمل التمهيدات الفكرية التي سبقت صعود موجات الشعبوية والانقسام الثقافي العميق.
يجمع تاننهاوس بين التوثيق الصارم والإحاطة الإنسانية؛ فهذه السيرة لا تضع باكلي في مقام البطل ولا تهاجمه كرمز للانقسام، بل ترصد أبعاد تأثيره الممتد وتُظهر مدى تعقيد الدور الذي أداه في صياغة خطاب أمة بأكملها.
يُعدّ الكتاب بالمجمل وثيقة فكرية وسياسية تعكس تحولات حقبة كاملة في التاريخ الأمريكي وذلك بما يمنحنا فيه الكاتب من ثراء في مضمونه ودقة في مصادره ويطرح من خلاله أسئلة جوهرية حول العلاقة بين الفكر والممارسة السياسية وحول كيف يمكن لشخص واحد أن يترك أثراً دائماً في هوية شعب.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق